الأطباء العرب في الإســكندرية

بقلم: د‏.‏ يونان لبيب رزق

newuonanlbeb2m

قررت الجمعية الطبية المصرية أن تقيم مؤتمرها الرابع عشر والعربي الخامس هذا العام في مدينة الإسكندرية‏,‏ خلال عطلة عيد الأضحي المبارك‏.‏ وقد تلقينا من الجمعية أن اشتراك العضو في هذا المؤتمر‏,‏ جنيه مصري كالمعتاد‏,‏ وجنيه آخر لكل من يرافق الطبيب من أفراد عائلته‏,‏ وهم الزوجة والابن والبنت‏,‏ وهي تلفت نظر الأطباء الذين دفعوا رسم اشتراكهم في مؤتمر لبنان أنهم سيعدون أعضاء في المؤتمر القادم‏,‏ إن لم يبلغوها غير ذلك في ميعاد أقصاه نهاية الشهر الحالي‏.‏ كان هذا نص الخبر الذي نشرته الأهرام في عددها الصادر يوم‏21‏ أكتوبر عام‏1942.‏

ولم يكن المؤتمر الطبي الدولي الأول‏,‏ فقد سبق واحتضنت مؤتمرا طبيا دوليا انعقد في القاهرة يوم‏23‏ ديسمبر عام‏1902,‏ وكان آخرها في عهد الملك فؤاد‏’‏ مؤتمر الجراحة الدولي‏’‏ الذي شارك فيه‏726‏ عضوا‏,‏ منهم‏200‏ من المصريين والباقون من الأجانب‏,’‏ مثلوا‏42‏ دولة‏,‏ وبين الأعضاء الأجانب‏’‏ طائفة كبيرة من أعلام الطب وفحول الجراحين في العالم‏’‏ علي حد توصيف جريدتنا في عددها الصادر يوم‏23‏ ديسمبر عام‏1935.‏

وقد شهدت تلك الفترة بين المؤتمرين الطبيين والتي ناهزت ثلث القرن مجموعة من المتغيرات كان من الطبيعي أن تترك بصماتها علي المؤتمر الجديد‏..‏

منها‏:‏ الاتجاه إلي التخصص‏,‏ فبعد أن كان المؤتمر الأول ذا طابع عام‏,‏ جاء المؤتمر الثاني متعلقا بالجراحة دون غيرها‏,‏ أكثر من ذلك بفروع معينة منها‏,‏ ومنها‏:‏ اختلاف الظروف السياسية‏,‏ إذ بينما اجتمع‏’‏ المؤتمر الطبي‏’‏ في ظروف الاحتلال البريطاني‏,‏ وأثناء وجود اللورد كرومر العتيد الذي لم تكن تغيب عنه شاردة ولا واردة‏,’‏ فإن مؤتمر الجراحة الدولي العاشر‏’‏ انعقد ومصر مملكة مستقلة‏,‏ الأمر الذي أتاح للمسئولين فيها أن يقرروا بعضا من الأمور دون استشارة‏’‏ دار المندوب السامي‏’

ومنها ثالثا‏:‏ أنه كانت قد نشأت في تلك الفترة الجامعة الأهلية عام‏1908‏ التي لم تلبث أن تحولت إلي أميرية عام‏1925,‏ وكانت كلية الطب من أولي كلياتها‏,‏ وهي المؤسسة التي احتضنت المؤتمر الجديد‏,‏ ومنها أخيرا‏:‏ ما عرفته تلك الفترة من اتساع قاعدة الأطباء المصريين‏,‏ واكتساب بعضهم شهرة عريضة‏,‏ وهم الذين أنيط لهم بالأساس تنظيم المؤتمر‏..‏ منهم‏:‏ الدكتور محمد شاهين باشا‏,‏ الدكتور علي إبراهيم باشا‏,‏ الدكتور نجيب محفوظ بك‏,‏ الدكتور عبد الرحمن عمر بك‏,‏ الدكتور محمد خليل عبد الخالق بك‏

وأخيرا الدكتور إبراهيم فهمي المنياوي بك‏,‏ هذا فضلا عن بقية المائتي طبيب مصري الذين تقرر اشتراكهم في المؤتمر‏.‏

مراسم الافتتاح جرت في قاعة الاحتفالات بالجامعة والتي تسع نحو أربعة آلاف‏..‏ دخول المدعوين بين العاشرة والنصف والحادية عشرة‏,‏ وبعد‏15‏ دقيقة وصل جلالة الملك فؤاد الأول الحفلة‏,‏ لتبدأ بعدها الخطب‏;‏ وزير المعارف‏,‏ عميد كلية الطب علي إبراهيم‏,‏ الدكتور فرهوجن رئيس اللجنة الدولية‏,‏ الدكتور كرفان نائبا عن أعضاء المؤتمر من الأجانب‏,‏ وأخيرا الدكتور مايز سكرتير جمعية الجراحة الدولية‏,‏ ولم ينس المنظمون أن يذكروا حضور الحفل بضرورة الالتزام بالأزياء الجامعية أو‏’‏ الردنجوت‏’‏ أو‏’‏ البونجور‏’‏؟‏!‏

عرضت الأهرام بعد ذلك‏’‏ لشارات المؤتمر الملونة‏’,‏ الخضراء خاصة بأعضاء لجنة التنظيم‏,‏ والبيضاء للجان الفرعية‏,‏ والصفراء لهيئة التدريس‏,‏ والزرقاء للجنة المعرض‏,‏ والزي الجامعي لطلبة كلية الطب‏,‏ أما برنامجه فقد تضمن بحوثا في جراحة الغدة الدرقية‏,‏ وجراحة عصب القولون السمبتاوي‏,‏ وجراحة القولون‏,‏ والأحوال الجراحية للبلهارسيا‏,‏ هذا عدا موضوعات أخري مختلفة وأشرطة سينمائية‏.‏

في الثامنة من صباح اليوم السابق علي الانعقاد وصلت الباخرة‏’‏ شامبليون‏’‏ الفرنسية وعلي متنها‏108‏ من أعضاء المؤتمر‏,‏ وقبل أن تمضي ثلاث ساعات وصلت الباخرة‏’‏ مرييت باشا‏’‏ وعلي متنها الفوج الثاني من أعضاء المؤتمر وهو مؤلف من‏92‏ طبيبا‏,‏ ولا ندري ما إذا كان استخدام تلك البواخر التي حملت أسماء ذات دلالة في التاريخ المصري القديم حدث بالمصادفة أم من قبيل التذكير بالدور الخاص الذي قام به الأوربيون‏,‏ خاصة من الفرنسيين‏,‏ في خدمة هذا التاريخ‏!‏

غير أن الدقة في كل الاستعدادات لم تمنع من حدوث أمور غير متوقعة‏,‏ فقد انعقد المؤتمر في حرم الجامعة وبوجود طلابها بكل ما يتملكهم من حماس‏,‏ وكانت البداية في التاسعة صباحا عندما وقف أحد طلبة كلية الحقوق وألقي خطبة تكلم فيها عن قانون العفو العام‏,‏ وتحدث عن الدستور فقال أنه لا يغني مطلقا عن الاستقلال التام‏,‏ وبعد أن انتهي من خطبته هتف بذكري الشهداء وحياة مصر واستقلالها‏.‏

في العاشرة والثلث وصل وزير المعارف‏,‏ أحمد نجيب الهلالي باشا‏’‏ لما وقع بصر الطلاب عليه احتاطوا بالسيارة وهتفوا بحياة الجامعة واستقلالها‏..‏ وقد رفع أحد الطلبة صورة المرحوم محمد عبد الحكيم الجراحي فقيد كلية الآداب أمام الباب المخصص لدخول الأعضاء فزادت حماسة الطلاب وهتفوا بحياة مصر والشهداء وبسقوط بريطانيا‏!‏

في محاولة لتهدئة الطلاب خرج من القاعة الدكتور طه حسين‏,‏ بكل ما له من هيبة وشعبية‏,‏ وأراد أن يخطب في الطلبة مهدئا غير أنهم لم يمكنوه من الاسترسال في خطابه‏,‏ قال‏:’‏ إنني أحمل إليكم رسالة الأستاذ مدير الجامعة‏.‏ ورسالة الأساتذة أعضاء هيئة التدريس‏.‏ وأتقدم بها إلي أبنائي الطلبة راجيا أن تكفوا عن الهتاف حتي لا نسئ إلي عواطف الضيوف‏,‏ وبعد أن تنتهي حفلة الاستقبال فلكم أن تفعلوا ما تشاءون‏’,‏ فرد الطلبة‏:’‏ تسقط إنجلترا‏’!!‏

ولم تنته المظاهرة الطلابية إلا بانتهاء حفلة الافتتاح وخروج المؤتمرين من القاعة الكبري قاصدين النصب التذكاري‏’‏ فساروا بين صفين من الطلبة حتي وصلوا إلي النصب‏,‏ فوقفوا خاشعين في صمت رهيب‏,‏ وقد رفعوا قبعاتهم عن رؤوسهم تحية لأرواح الشهداء‏’.‏

استمر المؤتمر أربعة أيام‏,‏ حرص الأعضاء الأجانب بعدها علي إطلاق بعض التصريحات‏;‏ منها‏:‏ إعجابهم الشديد بمستشفيات مصر ودقة الأنظمة المتبعة فيها وأن مستشفي المواساة في الإسكندرية ومستشفي فؤاد الأول في جزيرة الروضة بالقاهرة يعادلان أكبر مستشفيات العالم‏,‏ إن لم يتفوقا عليها‏!‏

ومنها‏:‏ ما ذكره الدكتور ماير السكرتير العام لجمعية الجراحة الدولية والذي نوه بما أصبح لدي الأطباء المصريين من خبرة في مرض البلهارسيا‏,‏ فضلا عن السهولة التي يقوم بها الجراحون المصريون باستئصال الطحال‏’‏ وهي عملية تعد عند الجراحين الأجانب من العمليات الهامة‏,‏ بينما هي عند الجراحين المصريين من أبسط العمليات لكثرة مرانهم عليها وخبرتهم فيها.‏’
نوه الرجل أيضا بما توصل إليه أعضاء المؤتمر من التعرف علي مقدار ما بذله الأطباء المصريون من جهد في سبيل خدمة بلادهم‏,‏ الدليل علي ذلك في رأيه ـ أن‏25‏ في المائة من مجموع الوفيات في القطر المصري سنة‏1925‏ كانت بسبب مرض البلهارسيا وقد هبطت هذه النسبة بعد عشر سنوات إلي‏4‏ في المائة فحسب‏.‏

علي الجانب الآخر كان للمصريين دورهم في عقد المؤتمرات الطبية العربية من خلال‏’‏ الجمعية الطبية المصرية‏’‏ التي أسسها الدكتور علي إبراهيم‏,‏ فقد عقدت عام‏1931‏ مؤتمرها الرابع في بيروت‏,‏ وفي‏1933‏ مؤتمرها السادس في بيت المقدس‏,‏ وجاء الدور علي دمشق‏1935,‏ وعلي بغداد بعد ذلك بثلاث سنوات‏,‏ وهي المؤتمرات التي لم يتخلف الرجل عن رئاسة أي منها‏,‏ وإلقاء كلمة الافتتاح المناسبة التي تدل علي وعي مبكر بأهمية العلاقة بين مصر وشقيقاتها العربيات‏.‏

لم يكن غريبا أن تعقد‏’‏ الجمعية الطبية المصرية الملكية‏’‏ مؤتمرها العربي التالي في الإسكندرية‏,‏ الأمر الذي نتبينه من طبيعة الدعوة التي نشرتها الأهرام ومن الأخبار التي جاءت من بعض البلاد العربية التي شارك أطباؤها في المؤتمرات السابقة‏,‏ منها الخبر الذي ورد من بيروت وجاء فيه أن الدكتور فؤاد غصن أذاع بيانا علي الأطباء الذين يرغبون في الاشتراك في مؤتمر الإسكندرية أبان فيه التسهيلات التي تقررت لإقامة الأطباء اللبنانيين والسوريين مدة شهر في مصر وتخفيض أجور السفر بالسكك الحديدية والطائرات والإقامة في الفنادق‏,‏ والتسهيلات الجمركية التي سوف تيسر لأصحاب معامل الأدوية‏.‏ وقد بلغ عدد الأطباء السوريين المشتركين في المؤتمر‏,‏ الذي تقرر أن يبدأ يوم‏17‏ ديسمبر‏,‏ ثمانين طبيبا غادروا دمشق قاصدين الثغر المصري‏,‏ ثم وصلت بقية الوفود حتي بلغ عدد المشاركين في المؤتمر‏673‏ عضوا‏.‏

وتقول الأهرام أنه نظرا لهذه الكثرة غير العادية فقد خصصت إدارة المستشفي أماكن لمبيت أعضاء المؤتمر بمدرسة محرم بك ومستشفيات الهلال الأحمر بمحرم بك وصفر باشا‏.‏ كذلك خصصت سيارات لتنقلاتهم بالمدينة وفقا لبرنامج المؤتمر‏.‏

وشرعت الجمعية الطبية المصرية الملكية والمسئولون في الإسكندرية في اتخاذ الإجراءات التنظيمية فتم تشكيل خمس لجان‏;‏ اللجنة التنفيذية برئاسة الدكتور علي إبراهيم باشا مؤلفة من ستة أعضاء‏,‏ اللجنة العلمية برئاسته أيضا ومؤلفة من‏18‏ عضوا‏,‏ لجنة ترتيب محال الإقامة برئاسة أحمد كامل باشا وأعضاؤها ثمانية‏,‏ ولجنة الحفلات والاستقبالات للسيدات وأعضاؤها خمس عشرة سيدة وقد أسندت رئاستها الفخرية إلي حرم عبد الخالق حسونة بك‏,‏ ورياستها العملية إلي حرم أحمد كامل باشا‏,‏ وأخيرا لجنة الحفلات والاستقبالات للرجال برئاسة أحمد كامل باشا وأعضاؤها سبعة وعشرون‏.‏

بعثت الأهرام بمراسل خاص إلي الإسكندرية لحضور افتتاح المؤتمر يوم‏17‏ ديسمبر عام‏1942,‏ حيث قدم وصفا شائقا لهذا الافتتاح جاء فيه‏:‏

‘‏احتفلت الجمعية الطبية الملكية المصرية في الساعة الحادية عشرة قبل ظهر اليوم بافتتاح مؤتمرها السنوي في كازينو حديقة النزهة‏.‏ وقد شهد هذا الحفل بضع مئات من أعضاء المؤتمر‏,‏ ومن المدعوين‏,‏ وبينهم أربعين سيدة أكثرهن من قرينات الأعضاء‏’.‏

الأهرام فى 18ديسمبر1942

44194_27m

ويضيف مراسل الأهرام الخاص أن بهو الكازينو الرحب ازدان بالرايات وأنواع النبات الأخضر‏.‏ وقد جلس في صدر المكان صاحب العزة إبراهيم تيمور بك مندوبا من قبل جلالة الملك‏,‏ وإلي جانبه أصحاب السعادة والعزة أحمد كامل باشا والدكتور علي إبراهيم باشا رئيس المؤتمر والدكتور محمد محفوظ بك وغيرهم من كبار القائمين بشئون المؤتمر وممثلي بعثات البلاد العربية‏.‏ وعند انتظام عقد الحضور وقف مندوب الملك وأعلن افتتاح المؤتمر باسم جلالته‏.‏

وكان مقررا أن يلقي عبد الخالق حسونة بك محافظ المدينة خطبة الافتتاح غير أن حالته الصحية حالت دون حضوره فألقي أحمد كامل باشا تلك الخطبة‏,‏ ثم خطب الدكتور علي إبراهيم باشا تلاه الأستاذ علي الجارم بك فألقي قصيدة ميمية بليغة فالدكتور سعيد عبده الذي ألقي زجلا جميلا‏.‏

واستطرد الرئيس الفخري للمؤتمر في التنويه بدور الإسكندرية فذكر أنه ما كاد ينقرض فيها القديم حتي‏’‏ كانت استودعت طبها وحكمتها علماء العرب والفرس والسريان‏,‏ فما حفظوا الوديعة فحسب‏,‏ وما كنزوا التراث مجرد كنز‏?‏ وإنما صقلوه أيما صقل وجددوه أيما تجديد‏,‏ وأضفوا عليه كل جديد وكل قشيب من بنات قرائحهم الوقادة وعصارة عقولهم الخصبة الجبارة‏,‏ وحفظوا ذلك التراث الهائل حتي أخذه عنهم العالم الحديث واستفادته إنسانية هذه العصور‏’.‏

أما كلمة علي إبراهيم باشا فقد تناولت المؤتمر من جانب آخر‏..‏ مكان الانعقاد وظروف المرحلة فيما جاء في قوله أن المؤتمر يمتاز باجتماعه في أحدث جامعة أنشئت في هذا العصر‏’‏ فعلي الرغم من هذه الحرب الطاحنة التي يستعر لهبها في جميع أنحاء العالم‏,‏ وانصراف الأمم المتحاربة عن التوسع في العلم‏..‏ برغم هذا كله‏,‏ فإن أمتنا الفتية الطموح لتأبي إلا أن تركض في سبيل العلاء ركضا‏’.‏

وأنهي عميد الأطباء المصريين كلمته بالقول‏:’‏ وأخيرا جدا‏,‏ وبعد قرابة ألفين وثلاثمائة عام انتزعت الإسكندرية مجدها المسلوب‏,‏ فقد نازعت همة بطليموس نفسه إلي أن يؤسس فيها الجامعة‏Museum‏ سنة‏304‏ قبل الميلاد‏,‏ فدعا بدمتريوس فافاليروس من أتباع أرسطاطاليس‏,‏ ليقوم علي بناء مؤسسة مثل مؤسسة أثينا‏.‏ علي أن المؤسسة الجديدة برعت نموذجها في الحجم والغني جميعا‏,‏ إذ كان المشرفون عليها والباسطون أيديهم بالإنفاق عليها هم البطالسة أنفسهم‏.‏ وناهيكم بالبطالسة إذا جردوا العناية ولم يألوا في البذل جهدا‏’!‏

وألقي الدكتور محفوظ بك كلمة جامعة فاروق الأول التي انعقد المؤتمر في كنفها‏,‏ وبعد أن استعرض دور الإسكندرية كمركز للنشاط والفكر العالمي خص مدرسة الطب بالحديث فذكر أنها قد أنشئت في الثغر عام‏322‏ قبل الميلاد‏,‏ ثم أشار إلي بعض أسماء علمائها الكبار ممن سبقه المتحدثون قبله بالإشارة إليهم‏,‏ وركز علي اهتمام الحكومة بالكلية الناشئة واتخاذ جناح من المستشفي الأميري مقرا لها ولكن بعد أن‏’‏ حور تحويرا دقيقا بمعرفة وزارة الأشغال فأصبحت من أصلح كليات الطب للدراسة وجهزت بأحدث المعدات واختير لها أفضل الأساتذة‏’.‏

جاءت بعد ذلك كلمات وفود الدول العربية‏,‏ وكان أهمها كلمة رئيس الوفد السوري التي أعقبتها كلمة رئيس الوفد الفلسطيني‏.‏

الأول وكان اسمه الدكتور محيي الدين السفرجلاني‏,‏ وكعادة السوريين‏,‏ فقد أضفي رئيس وفدهم علي كلمته مذاقا سياسيا فتحدث عن الملك الصالح العادل فاروق‏’‏ الذي فرق بين الحق والباطل‏,‏ وبين العلم والجهل‏,‏ ومكن مصر من الحلول في المحل اللائق بهم بين الأمم‏’.‏

وبحكم توجهاته السياسية لم ينس الدكتور السفرجلاني أن يشير إلي ما كان لرجال مصر من فضل في إعلاء شأنها‏,‏ وخص بالذكر كل من الإمام الشيخ محمد عبده ومصطفي كامل باشا وسعد زغلول باشا ومصطفي النحاس باشا الذي كان يرأس الوزارة وقتئذ‏!‏

أما الدكتور منيف العائدي فقد خص بالذكر‏’‏ العلامة الكبير زعيم الجراحة بالشرق الدكتور علي إبراهيم باشا‏’,‏ وذكر أن هذه المؤتمرات لا تقتصر علي الغاية العلمية البحتة‏,‏ بل إن فوق هذه الغاية الشريفة غاية شريفة ثانية وهي أن تؤلف في مجمع واحد بين قلوب أعضاء الجسم الطبي وأنفسهم‏’‏ ولسوف تبقي بعد انفضاض هذا المؤتمر كما بقيت بعد انفضاض المؤتمرات السابقة‏’!‏

ولم ينقض الأسبوع المخصص للمؤتمر في عقد الجلسات العلمية فحسب‏,‏ بل أنه قد تم ترتيب زيارة لأعضائه إلي القاهرة حيث قاموا بمشاهدة أهم معالمها‏,‏ كما تفقدوا أهم المؤسسات الصحية بالإسكندرية نفسها‏;‏ مستشفي المواساة‏,‏ المستشفي الأميري‏,‏ مستشفي الهلال الأحمر‏,‏ المستشفي العسكري المصري في دار المستشفي الإيطالي‏,‏ مستشفي الولادة‏,‏ ومستشفي الرمد‏.‏ ثم شاهدوا آثار كوم الشقافة حيث كان مدير المتحف في انتظارهم ليشرخ لهم ما يرونه من تلك الآثار‏.‏

أما الجلسات العلمية فقد خصص لها اليومان الثالث والرابع‏..‏

في اليوم الأول قسمت البحوث أربعة أقسام‏;‏ الأول‏:‏ قسم تحسين الصحة القروية‏,‏ والثاني قسم الملاريا في الإسكندرية ومشروع بحيرة مريوط‏,‏ والثالث‏:‏ مسألة الغدد الصماء والعلاج بخلاصاتها‏,‏ واشتمل الرابع علي أربعة بحوث متفرقة‏;‏ وكان أهمها البحث الثاني عن صلاحية مدينة الإسكندرية للاصطياف والتشتية والرابع عن مرض الجوع في اليونان‏.‏

وقبيل أن ينتهي المؤتمر كان صاحب المقام الرفيع مصطفي النحاس باشا رئيس الوزراء بين المؤتمرين حيث ألقي كلمة أشاعت البهجة في نفوس الأطباء‏,‏ فقد امتلأت بالتساؤلات الطريفة‏..‏ أليس فيكم الجراح البارع الذي يستأصل بمبضعه أس الجراحات‏,‏ ويخفف الآهات والأنات؟ أليس منكم نطاسيون في الأمراض الباطنية‏,‏ أصابعهم حساسة ونظرتهم نفاذة تصل إلي الداء فتصف الدواء وتدني من الشفاء؟ أليس بينكم أطباء العيون كأنهم من معجزة المسيح يستمدون‏,‏ يبرئون الأعمي بإذن الله ويعيدون إليه بصره ليتمتع بمباهج الحياة؟ أليس من طائفتكم من يرجعون إلي الأصم السمع فيشنف أذنه بأنغام الطبيعة؟ ومن يعيد إلي الأبكم النطق فيستطيع الإعراب عما يريد؟

تطوع الزعيم المصري بالإجابة بعد ذلك ورأي أن من بين المؤتمرين من يستطيع أن يفعل هذا وأكثر‏,‏ وهي المجاملة التي نزلت منزلة حسنة في نفوس أعضاء المؤتمر العربي المنعقد في الإسكندرية‏,‏ الذين بدءوا بعدئذ في حزم أمتعتهم عائدين إلي بلادهم‏,‏ وهم يتأهبون للمؤتمر التالي‏!

No comments yet.

اترك تعليقاً